الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها
قال الله
تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
) (الحشر:7) وقال تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحَى ) (النجم:3،4) وقال تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ )(آل عمران:31)
، وقال تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)
(الأحزاب:21) .
الشرح
قال المؤلف
ـ رحمه الله تعالى ـ : باب الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها ، السنة :
يراد بها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي طريقته التي كان عليها في عباداته
وأخلاقه ومعاملاته ، فهي أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وإقراراته ، هذه هي
السنة . ويطلق الفقهاء السنة على العمل الذي يترجح فعله على تركه ، وهو الذي يثاب
على فعله ، ولا يعاقب على تركه .
ولا شك أن
الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعثه الله ـ تعالى ـ بالهدى ودين الحق . والهدى :
هو العلم النافع ودين الحق : هو العمل الصالح ، فلابد من علم ، ولابد من عمل ، ولا
يمكن أن يحافظ الإنسان على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن يعلمها ،
وعليه فيكون الأمر بالمحافظة على السنة أمراً بالعلم وطلب العلم .
وطلب العلم
ينقسم إلى ثلاثة أقسام : فرض عين ، وفرض كفاية ، وسنة .
أما
فرض العين : فهو علم ما تتوقف
العبادة عليه . يعني العلم الذي لا يسع المسلم جهله ، مثل العلم بالوضوء ، بالصلاة
، بالزكاة ، بالصيام ، بالحج ، وما أشبه ذلك ، فالذي لا يسع المسلم جهله ؛ فإن
تعلمه يكون فرض عين . ولهذا نوجب على هذا الشخص أن يتعلم أحكام الزكاة لأنه ذو مال
، ولا نوجب على الآخر أن يتعلم أحكام الزكاة لأنه ليس ذا مال .
كذلك الحج
: نوجب على هذا أن
يتعلم أحكام الحج لأنه سوف يحج ، ولا نوجب على الآخر أن يتعلمها ؛ لأنه ليس بحاج .
أما
فرض كفاية : فهو العلم الذي تحفظ
به الشريعة ، يعني هو العلم الذي لو ترك لضاعت الشريعة ، فهذا فرض كفاية ، إذا قام
به من يكفي سقط عن الباقين ، فإذا قدر أن واحداً في البلد قد قام بالواجب في هذا
الأمر وتعلم ، وصار يفتي ويدرس ، ويعلم الناس ، صار طلب العلم في حق غيره سنة وهو
القسم الثالث .
إذن طالب
العلم يدور أجره بين أجر السنة ، وأجر فرض الكفاية ، وأجر فرض العين . والمهم أنه
لا يمكن أن نحافظ على السنة وآدابها إلا بعد معرفة السنة وآدابها .
ثم ذكر
المؤلف من كتاب الله عز وجل ، منها قوله تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) (آل عمران:31) ، هذه الآية يسمها بعض العلماء آية
المحنة ، أي آية الامتحان ، لأن الله ـ تعالى ـ امتحن قوماً ادعوا أنهم يحبون الله
، قالوا : نحن نحب الله ، دعوى يسيرة ، لكت على المدعي البينة ، قال الله تعالى :
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي ) فمن ادعى محبة الله ، وهو لا يتبع الرسول ـ عليه الصلاة
والسلام ـ فليس صادقاً . بل هو كاذب ، فعلامة محبة الله ـ سبحانه وتعالى ـ
أن تتبع رسوله صلى الله عليه وسلم .
واعلم أنه
بقدر تخلفك عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم يكون نقص محبتك لله ، وما نتيجة
متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ جاء ذلك في الآية نفسها (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) وهذه الثمرة ؛ أن الله يحبك ،
لا أن تدعي محبة الله . فإذا أحبك الله ؛ فإنه لن يحبك إلا إذا أتيت ما يحب ، فليس
الشان أن يقول القائل : أنا أحب الله ، ولكن الشأن كل الشأن أن يكون الله عز وجل ـ
يحبه . نسأل الله عز وجل ـ أن يجعلنا وإياكم من أحبابه . وهذا هو الشأن .
وإذا أحب
الله الشخص ، يسر الله له أمور دينه ودنياه ، ورد في الحديث : ( أن الله إذا أحب
شخصاً نادى جبريل : أني أحب فلاناً فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي في أهل
السماوات : أن الله يحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهل السماوات ، ثم يوضع له
القبول في الأرض )(199) فيحبه أهل الأرض ، ويقبلونه ، ويكون إماماً
لهم ، إذاً محبة الله هي الغاية ، ولكنها غاية لمن كان متبعاً للرسول صلى الله عليه
وسلم غاية كمن كان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم فمن اتبع الرسول صلى الله عليه
وسلم أحبه الله .
وذكر
المؤلف قوله تعالى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )(الحشر:7) وهذه الآية في
سياق قسمة الفيء ؛ يعني المال الذي يؤخذ من الكفار . يقول الله عز وجل : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ ) يعني ما أعطاكم من المال
فخذوه ولا تردوه ، (وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا ) أي لا تأخذوه .
ولهذا بعث
الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ على الصدقة في سنة
من السنوات ، فلما رجع أعطاه فقال : يا رسول الله تصدق به على من هو أفقر مني ،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما جاءك من هذا المال ، وأنت غير مشرف ولا
سائل فخذه ، وما لا فلا تتبعه نفسك )(200) فما أعطانا الرسول صلى
الله عليه وسلم فإننا نأخذه ، وما نهانا عنه فإننا لا نأخذه .
وهذه الآية
ـ وإن كانت في سياق قسمة الفيء ـ فإنها كذلك بالنسبة للأحكام الشرعية ، فما أحله
النبي صلى الله عليه وسلم لنا فإننا نقبله ونعمل به على أنه حلال ، وما نهانا عنه
فإننا ننتهي عنه ، ونتركه ولا نتعرض له ، فهي وإن كانت في سياق الفيء فهي عامة تشمل
هذا وهذا .
ثم ذكر
أيضاً قوله تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ) يعني بالأسوة : القدوة . والحسنة : ضد السيئة ، والنبي ـ عليه
الصلاة والسلام ـ هو أسوتنا وقدوتنا ، ولنا فيه أسوة حسنة ، وكل شيء تتأسى فيه
برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه خير وحسن .
ويشمل قوله
تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) معنيين :
المعنى
الأول : هو أن كل ما يفعله فهو حسن ، فالتأسي به حسن .
الثاني :
أننا مأمورون بأن نتأسى به أسوة حسنة ، لا نزيد على ما شرع ولا ننقص عنه ، لأن
الزيادة أو النقص ضد الحسن ، ولكننا مأمورون بأن نتأسى به وكل شيء نتأسى به فيه
فإنه حسن .
وأخذ
العلماء من هذه الآية أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم حجة يحتج بها ويقتدى به
فيها ، إلا ما قام الدليل على أنه خاص به ، فما قام الدليل على أنه خاص به فهو مختص
به ، مثل قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ
أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ) إلى أن قال ( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ
نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً
لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) (الأحزاب:50) ، فما كان من خصائصه فهو من خصائصه
.
ومن ذلك
أيضاً : الوصال في الصوم ، أي أن يسدد الإنسان صوم يومين بلا فطر ، فإن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه ، قالوا : يا رسول الله ، إنك تواصل ، يعني فكيف
تنهانا ؟ فقال : ( إني لست كهيئتكم ، إني أطعم وأسقي
)(201) وفي لفظ : ( إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني
)(202) يعني يطعمه الله ويسقيه بما يمده به من ذكره ، وتعلق قلبه به حتى
ينسى الأكل والشرب ولا يطلبه . ونحن نعلم الآن أن الرجل لو شغل بأمر من أمور الدنيا
نسى الأكل والشرب حتى أن الشعراء يتمثلون بهذا بقولهم :
لـهـا أحــاديـث مــن
ذكـــراك تـشــغـلـهـا
عـــن الشــراب
وتـلــهـيـهــا عـــن الــزاد
يعني أن
أحاديثها بك إذا قامت تتحدث ؛ ألهاها ذلك عن الشراب وعن الزاد .
فالنبي ـ
عليه الصلاة والسلام ـ لقوة تعلقه بربه ، إذا قام من الليل يتهجد ، فإن الله ـ
تعالى ـ يعطيه قوة بما يحصل له من الذكر ، تكفيه عن الأكل والشرب . أما نحن فلسنا
كهيئته ، ولهذا منع الوصال ، وبين أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم .
*
* *
وذكر
المؤلف قوله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) .
الشرح
ساق المؤلف
رحمه الله تعالى ـ فيما ساقه من الآيات الدالة على المحافظة على السنة وآدابها قوله
تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيما) هذه الآية لها صلة بما قبلها وهي قوله تعالى ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ
خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59) ، فأمر الله ـ تعالى ـ بطاعته ، وبطاعة
رسوله وأولي الأمر منا .
وأولو
الأمر : يشمل العلماء والأمراء ، لأن العلماء ولاة أمورنا في بيان دين الله ،
والأمراء ولاة أمرنا في تنفيذ شريعة الله ن ولا يستقيم العلماء إلا بالأمراء ، ولا
الأمراء إلا بالعلماء . فالأمراء عليهم أن يرجعوا إلى العلماء ليستبينوا منهم شريعة
الله . والعلماء عليهم أن ينصحوا الأمراء ، وأن يخوفوهم بالله ، وأن يعظوهم حتى
يطبقوا شريعة الله في عباد الله عز وجل .
ثم قال :
(فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) يعني : إن اختلفتم في شيء من الأشياء ، فليس قول
بعضكم حجة على الآخر ، ولكن هناك حكم الله ـ عز وجل ـ ورسوله صلى الله عليه وسلم
فعليكم بالرجوع إلى حكم الله ـ تعالى ـ وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم أما الرجوع
إلى الله فهو الرجوع إلي كتابه، القرآن العظيم،أما الرجوع إلي رسول الله صلى الله
عليه وسلم فهو الرجوع إلى سنته صلى الله عليه وسلم إن كان حياً بمراجعه شخصياً ،
وإن كان ميتاً فبمراجتة ما صح من سنته صلى الله عليه وسلم ، (إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر ) وهذا حث على الرجوع إلى الله ـ
تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأن الرجوع إلى الله ورسوله من مقتضيات الإيمان .
( ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) يعني أحسن
عاقبة ، فالرجوع إلى الله ورسوله خير للأمة وأحسن عاقبة ، مهما ظن الظان أن الرجوع
إلى الكتاب والسنة يشكل أمراً قد يعجز الناس ، وقد لا يطيقون ذلك ، فهذا ظن خاطئ لا
قيمة له ، فبعض الناس يظنون أن الرجوع إلى الإسلام الذي كان في صدر هذه الأمة لا
يتناسب مع الوقت الحاضر والعياذ بالله ، ولم يعلم هؤلاء أن الإسلام حاكم وليس
محكوماً عليه ، وأن الإسلام لا يتغير باختلاف الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص ،
الإسلام هو الإسلام ، فإن كنا نؤمن بالله واليوم الأخر ؛ فلنرجع إلى الكتاب والسنة
( ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) أي :
أحسن مآلاً وعافية .
ثم قال
تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ
أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى
الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) (النساء:60) ،
والاستفهام هذا للتعجب ح يعني ألا تتعجب من قوم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل عليك ،
وبما أنزل من قبلك ، ولكنهم لا يريدون التحاكم إلى الله ورسوله ، إنما يريدون أن
يتحاكموا إلى الطاغوت ؛ وهو كل ما خالف شريعة الله .
ومن هؤلاء
القوم ما ابتلى الله به المسلمين من بعض الحكام الذين يريدون أن يرجعوا في الحكم
بين الناس إلى قوانين ضالة بعيدة عن الشريعة ، وضعها فلان وفلان من كفار ، لا
يعلمون عن الإسلام شيئاً ، هم أيضاً في عصر قد تختلف العصور عنه ، وفي أمة قد تختلف
عنها الأمم الأخرى .
لكن ـ مع
الأسف ـ إن بعض الذين استعمروهم الكفار من البلاد الإسلامية ، أخذوا هذه القوانين ،
وصاروا يطبقونها على الشعب الإسلامي ، غير مبالين بمخالفتها لكتاب الله ـ تعالى ـ
وسنة رسوله صلى اله عليه وسلم وهم يزعمون أنهم آمنوا بالله ورسوله ، كيف ذلك ؟ وهم
يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ، وقد أمروا أن يكفروا به ، أمروا أمراً من الله أن
يكفروا بالطاغوت ، ومع ذلك يريدون أن يكون التحاكم إلى الطاغوت ، ( وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ
أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ) (النساء:60) ، يريد الشيطان أن يضلهم
عن دين الله ضلالاً بعيداً ليس قريباً ، لأن من حكم غير شريعة الله فقد ضل أعظم
الضلال ، وأبعد الضلال .
قال الله
عز وجل : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ
عَنْكَ صُدُوداً) (النساء:61) ، أي إذا
قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله ؛؛ وهو القرآن ، وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون
عنك صدوداً ، ولم يقل : رأيتهم لأجل أن يبين أه هؤلاء منافقين ، فأظهر في وضع
الإضمار لهذه الفائدة . ولأجل أن يشمل هؤلاء وغيرهم من المنافقين ، فإن المنافق ـ
والعياذ بالله ـ إذا دعي إلى الله ورسوله أعرض وصد .
( فَكَيْفَ
إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا
إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً) ، يعني كيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة وكشفت عوراتهم
واطلع عليها ، ثم جاءوك يحلفون بالله وهم كاذبون : ( إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً )
يعني ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق بين الشريعة وبين القوانين الوضعية ، ولا يمكن
أن يكون هناك توفيق بين حكم الله وحكم الطاغوت أبداً ، حكم الطاغوت لو فرض أنه وافق
حكم الله ؛ لكان حكماً لله لا للطاغوت ؛ ولهذا ما في القوانين الوضعية من المسائل
النافعة ، فإنها سبق إليها الشرع الإسلامي .
ولهذا قال
: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ
قَوْلاً بَلِيغاً) (النساء:63) ، يعني : هؤلاء هم الذين يعلم الله ما في
قلوبهم ، وإن أظهروا للناس أنهم يؤمنون بالله ، وأنهم يريدون الإحسان والتوفيق بين
الأحكام الشرعية والأحكام القانونية ، هؤلاء هم الذين يعلم الله ما في قلوبهم ،
وماذا أرادوا لأمتهم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ )
وهذا الأمر بالإعراض عنهم تهديد لهم ( وَعِظْهُمْ
وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ) أي قل لهم قولاً بليغاً
يبلغ إلى أنفسهم ليتعظوا به .
ثم قال : (
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ
بِإِذْنِ اللَّهِ ) يعني ما أرسلنا الرسل لتقرأ أقوالهم ويتركون ، بل ما
أرسلت الرسل إلا ليطاعوا، وإلا فلا فائدة من إرسالهم .
الرسالة
معناها ومقتضاها أن الرسول يطاع : ( وَمَا أَرْسَلْنَا
مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا
اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً
) يعني لو أنهم إذا
ظلموا أنفسهم بما أضمروه في نفوسهم من الباطن ، جاءوك فاستغفروا الله : يعني طلبوا
من الله المغفرة ، واستغفرت لهم أنت ؛ لوجدوا الله تواباً رحيماً ، ولكنهم ـ
والعياذ بالله ـ بقوا على نفاقهم وعلى عنادهم .
وهذه الآية
استدل بها دعاة القبور الذين يدعون القبور ويستغفرونها حيث قالوا : لأن الله قال
لنبيه عليه الصلاة والسلام : (وَلَوْ أَنَّهُمْ
إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ
فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ
تَوَّاباً رَحِيماً ) فأنت إذا أذنبت ، فأذهب إلى قبر النبي عليه الصلاة
والسلام ، واستغفر الله ليستغفر لك الرسول .
ولكن هؤلاء
ضلوا ضلالاً بعيداً ؛ لأن الآية صريحة قال : ( إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ) ولم يقل : إذا ظلموا أنفسهم جاءوك ، فهي تتحدث عن شيء مضى
وانقضى ، يقول : لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم بما أحدثوا ، ثم جاءوك في حياتك ،
واستغفروا الله ، واستغفر لهم الرسول ، لوجدوا الله توباً رحيما ، أما بعد موت
الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ فإنه لا يمكن أن يستغفر الرسول صلى الله عليه وسلم
لأحد ؛ لأنه انقطع عمله ، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( إذا مات
الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد
صالح يدعو له )(203) فعمل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بعد
موته لا يمكن ، لكنه صلى الله عليه وسلم يكتب له أجر كل ما عملته الأمة ، فكل ما
عملنا من خير وعمل صالح من فرائض ونوافل ، فإنه يكتب أجره للرسول عليه الصلاة
والسلام ؛ لأنه هو الذي علمنا ، فهذا داخل في قوله : ( أو علم ينتفع به )
.
الحاصل أنه
لا دلالة في هذه الآية على ما زعمه هؤلاء الداعون لقبر النبي عليه الصلاة والسلام .
ثم ذكر
المؤلف ـ رحمه اله ـ قوله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) هذه الآية ذكرها الله ـ عز وجل ـ عقب قوله تعالى
: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا
اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) وهذه
الآية فيها إقسام من الله ـ عز وجل ـ بربوبيته لمحمد صلى الله عليه
وسلم ، الدالة على عنايته به صلى الله عليه وسلم عناية خاصة ، وذلك لأن الربوبية
هنا ربوبية خاصة .
ولله ـ عز
وجل ـ على خلقه ربوبيتان : ربوبية عامة لكل أحد ، مثل قوله تعالى : ( الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة:2)
، وربوبية خاصة لمن اختصه من عباده مثل هذه
الآية : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) . وقد اجتمع النوعان في قوله ـ
تعالى ـ عن سحرة آل فرعون : ( قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ
مُوسَى وَهَارُونَ) (الأعراف:122)
، فرب العالمين عامة ، ورب موسى وهارون خاصة .
والربوبية
الخاصة تقتضي عناية خاصة من الله عز وجل ، فاقسم ـ سبحانه وبحمده ـ بربوبيته لعبده
محمد صلى الله عليه وسلم فسماً مؤكداً بلا في قوله : ( فَلا وَرَبِّكَ ) و( لا ) هذه يراد بها التوكيد ولو
قال: فوربك لا يؤمنون ؛ لتم الكلام ، ولكنه أتي بلا للتوكيد، كقوله تعالى : (لا
أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (القيامة:1) ، ليس المراد النفي أن الله لا يقسم
بيوم القيامة ، بل المراد التوكيد ، فهي هنا للتوكيد والتنبيه .
( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) أي يجعلونك حكماً فيما حصل بينهم من النزاع ؛ لأن معنى
( شجر ) أي حصل من النزاع ( حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
) يجعلوك أنت الحكم فيما حصل بينهم من النزاع ، في أمور الدين ، وفي أمور
الدنيا .
ففي أمور الدين
: لو تنازع رجلان في
حكم مسألة شرعية ؛ فقال أحدهما : هي حرام ، وقال الثاني : هي حلال ، فالتحاكم إلى
الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ فلا يؤمن أحد منهما ـ أي من المتشاجرين ـ إلا إذا حكم
رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولو تنازع
الناس في أمر دنيوي بينهم ، كما حصل بين الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ وجاره
الأنصاري ، حين تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ماء الوادي ، فحكم
بينهما ، فهذا تحاكم في أمور الدنيا ، المهم أنه لا يؤمن أحد حتى يكون تحاكمه في
أمور الدين والدنيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم إن
الإيمان المنفي هنا ، إن الإنسان لا يرضى بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقاً ،
فهو نفى للإيمان من أصله، لأن من لا يرضى بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقاً
كافر ، ـ والعياذ بالله ـ خارج عن الإسلام، وإن كان عدم الرضا بالحكم في مسألة خاصة
، وعصى فيها ، فإنها ـ إذا لم تكن مكفرة ـ فإنه لا يكفر .
وقوله عز
وجل : (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ) لو قال قائل :
كيف يكون تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته ؟ فالجواب أن
نقول : يكون تحكيمه بعد موته بتحكيم سنته صلى الله عليه وسلم .
فالشيء
الأول : ( لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ )
.
والشيء
الثاني : (
ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) ، يعني أن
الإنسان قد يحكم الكتاب والسنة ، ولكن يكون في قلبه حرج ، يعني ما يطمئن أو ما يرضى
إلا رغماً عنه، فلابد من أن لا يجد الإنسان في نفسه حرجاً مما قضى الله ورسوله
.
الشيء
الثالث : ( وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) أي ينقادوا انقياداً تاماً ،
ليس فيه تأخر ولا تقهقر ، فهذه شروط ثلاثة لا يتم الإيمان إلا بها .
أولاً
: تحكيم الرسول صلى
الله عليه وسلم.
والثاني
: أن لا يجد الإنسان
في نفسه حرجاً مما قضاه الرسول صلى الله عليه وسلم .
والثالث
: أن يسلم تسليماً
تاماً بالغاً .
وبناءً على
هذا نقول : إن الذين يحكمون القوانين الآن ، ويتركون وراءهم كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم ما هم بمؤمنين ؛ ليسوا بمؤمنين، لقول الله تعالى
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) ولقوله : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (المائدة:44) ، وهؤلاء المحكمون للقوانين
لا يحكمونها في قضية معينة خالفوا فيها الكتاب والسنة ، لهوى أو لظلم ، ولكنهم
استبدلوا الدين بهذا القانون ، وجعلوا هذا القانون يحل محل شريعة الله ، وهذا كفر ؛
حتى لو صلوا وصاموا وتصدقوا وحجوا ، فهم كفار ما داموا عدلوا عن حكم الله ـ وهم
يعلمون بحكم الله ـ وإلى هذه القوانين المخالفة لحكم الله .
( فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)
(النساء:65) ، فلا
تستغرب إذا قلنا : إن من استبدل شريعة الله بغيرها من القوانين فإنه يكفر ولو صام
وصلى ؛ لأن الكفر ببعض الكتاب كفر بالكتاب كله ، فالشرع لا يتبعض ، إما تؤمن به
جميعاً ، وإما أن تكفر به جميعاً ، وإذا آمنت ببعض وكفرت ببعض ، فأنت كافر بالجميع
، لأن حالك تقول : إنك لا تؤمن إلا بما لا يخالف هواك . وأما ما خالف هواك فلا تؤمن
به . هذا هو الكفر . فأنت بذلك اتبعت الهوى ، واتخذت هواك إلهاً من دون الله .
فالحاصل أن
المسألة خطيرة جداً ، من أخطر ما يكون بالنسبة لحكام المسلمين اليوم ، فإنهم قد
وضعوا قوانين تخالف الشريعة وهم يعرفون الشريعة ، ولكن وضعوها ـ والعياذ بالله ـ
تبعاً لأعداء الله من الكفرة الذين سنوا هذه القوانين ومشى الناس عليها ، والعجب
أنه لقصور علم هؤلاء وضعف دينهم ، أنهم يعلمون أن واضع القانون هو فلان بن فلان من
الكفار ، في عصر قد اختلفت العصور عنه من مئات السنين ، ثم هو في مكان يختلف عن
مكان الأمة الإسلامية ، ثم هو في شعب يختلف عن شعوب الأمة الإسلامية ، ومع ذلك
يفرضون هذه القوانين على الأمة الإسلامية ، ولا يرجعون إلى كتاب الله ولا إلى سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأين الإسلام ؟ وأين الإيمان ؟ وأين التصديق برسالة
محمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول إلى الناس كافة ؟ وأين التصديق بعموم رسالته
وأنها عامة في كل شيء ؟.
كثير من
الجهلة يظنون أن الشريعة خاصة بالعبادة التي بينك وبين الله ـ عز وجل ـ فقط ، أو في
الأحوال الشخصية من نكاح وميراث وشبهه ، ولكنهم أخطئوا في هذا الظن ، فالشريعة عامة
في كل شيء ، وإذا شئت أن يتبين لك هذا ؛ فسال ما هي أطول آية في كتاب الله ؟ سيقال
لك إن أطول آية هي: آيه الدين : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ ....) (البقرة: 282) كلها في المعاملات ، فكيف نقول إن
الشرع الإسلامي خاص بالعبادة أو بالأحوال الشخصية . هذا جهل وضلال ، إن كان عن عمد
فهو ضلال واستكبار ، وإن كان عن جهل فهو قصور ، والواجب أن يتعلم الإنسان ويعرف ،
نسأل الله لنا ولهم الهداية .
المهم أن
الإنسان لا يمكن أن يؤمن إلا بثلاثة شروط :
الأول
: تحكيم النبي صلى الله
عليه وسلم .
والثاني
: ألا يجد في صدره
حرجاً ولا يطيق صدره بما قضى النبي عليه الصلاة والسلام .
والثالث
: أن يسلم تسليماً ،
وينقاد انقياداً تاماً . فبهذه الشروط الثلاثة يكون مؤمناً ، وإن لم تتم فإنه إما
خالي من الإيمان مطلقاً ، وإما ناقص الإيمان ، والله الموفق .