- نخلص مما تقدم إلى أن كلاً من قوله تعالى :﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ ، وقوله تعالى :﴿ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا ﴾ خبر قاطع عن أن ذلك لا يقع منهم ، ولن يقع في الحياة الدنيا أبدًا ، وليس في السياق ما يشير إلى عدم تمنيهم الموت في الآخرة ، بدليل ما حكاه القرآن عنهم من قولهم ، وهم في النار يصطرخون :﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾(الزخرف: 77) ، وبدليل ما حكاه القرآن عن الكفار عامة من قولهم :﴿ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾(الحاقة: 27) . فالكفار بصورة عامة ، واليهود بصورة خاصة لا يتمنون الموت في الحياة الدنيا لحرصهم على الحياة ، وخوفهم من الجزاء ؛ ولكنهم إذا فارقوا الدنيا ، وصاروا إلى الآخرة ، وأدخلوا النار بما قدمت أيديهم ، تمنوا الموت . ويبدو الفرق بين النفيين من وجهين :
أحدهما : أن قوله تعالى :﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ إخبار بحال اليهود المستقبلة ، وأما قوله تعالى:﴿ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا ﴾ فهو إخبار بحال اليهود الحاضرة والمستقبلة . وعليه فإن الأول يقتضي نفي تمنيهم الموت فيما يستقبل من أعمارهم ، وإن الثاني يقتضي نفي تمنيهم الموت مدة حياتهم في الدنيا ، خلافًا لما ذكره ابن قيم الجوزية في قوله السابق من أن آية البقرة « إنما اقتضت نفي تمني الموت أبد الحياة الدنيا » ؛ لأن الذي يقتضي ذلك هو النفي بـ( لا ) ، لا النفي بـ( لن ) ؛ لأن ( لا )- كما قال هو ومن قبله الشيخ السهيلي وابن الزملكاني- « هي لام ، بعدها ألف ، يمتد بها الصوت ما لم يقطعه ضيق النفس ، فآذن امتداد لفظها بامتداد معناها ، و( لن ) بعكس ذلك » . والدليل عليه أيضًا ما ذكره ابن قيم الجوزية نفسه من قوله :« وتأمل قوله تعالى :﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾(الأنعام: 103) ، كيف نفى فعل الإدراك بـ( لا ) الدالة على طول النفي ودوامه ؛ فإنه لا يدرك أبدًا . وإن رآه المؤمنون فأبصارهم لا تدركه ، تعالى عن أن يحيط به مخلوق ، وكيف نفى الرؤية بـ( لن ) فقال :﴿ لَنْ تَرَانِي ﴾(الأعراف: 143) ؛ لأن النفي بها لا يتأبد » .
ونحو ذلك قوله تعالى :﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ ﴾(البقرة: 24) . فقوله :﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ﴾ نفي لفعلهم في الحال والمستقبل ، كما كان قوله :﴿ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا ﴾ نفي لتمنيهم الموت في الحال والمستقبل . وقوله :﴿ وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ نفي لفعلهم في المستقبل ؛ كما كان قوله :﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ نفي لتمنيهم الموت في المستقبل . فثبت بذلك أن النفي الأول إخبار بحالهم الدائمة المستمرة ، والنفي الثاني إخبار بحالهم المستقبلة .
والثاني : أن الغرض من قوله تعالى :﴿ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا ﴾ هو إبطال ادعاء اليهود أنهم أولياء لله من دون الناس . وأما قوله تعالى :﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ فالغرض منه إبطال ادعائهم أن لهم الدار الآخرة خالصة عند الله من دون الناس . وواضح من سياق الآيات أن ادعاءهم الأول متعلق بالحياة الدنيا ، وأن ادعاءهم الثاني متعلق بالدار الآخرة ، فناسب الأول نفي تمنيهم الموت بـ( لا ) التي ينفى بها الحال والمستقبل ، ولم ينف بـ( ما ) الخاصة بالحال ؛ لأنهم أرادوا أنهم أولياء لله من دون الناس مستمرون على ذلك إلى آخر حياتهم ، فكذِّبوا بما ينفي ذلك . وناسب الثاني نفي تمنيهم الموت بـ( لن ) الخاصة بنفي المستقبل ، فدل على أنهم يتمنون الموت في الدار الآخرة التي ادعوا أنها لهم عند الله خالصة من دون الناس . ولو أتى هذا النفي هنا بـ( لا ) بدلا من ( لن ) ، كما في آية الجمعة ، لدل على عدم تمنيهم الموت مدة الحياة الدنيا ، ومدة الحياة الآخرة ، وهذا خلاف المراد .